الطفل يستيقظ
كتُب هذا النص للمشاركة في إحتفالية بمناسبة مرور 400 عام على وفاة المسرحي والشاعر الكبير وليم شكسبير وقد ألقيت في ندوة خاصة خلال فعاليات مهرجان طيران الإمارات للآداب 2016، والنص يستوحي السوناته الأولى والثانية لشكسبير
استهلال
لقائي الأول بالنص الشكسبيري كان من خلال مشاركتي
قبل أكثر من ثلاثين عام في ورشة تدريب مسرحية جرت
في الشارقة. إحدى المسرحيات التي تدربنا عليها في
تلك الورشة كانت مسرحية (الملك لير)، وقمت بالتدرب
على أداء دور إدموند.
بعد سنوات منذ ذلك الوقت شاهدت
فيلم (ران) للمخرج الياباني أكيرا كيروساوا، حيث قام
بكتابة وإخراج فيلم مدهش مستوحى من قصة (الملك لير).
تأثرت بالفيلم إلى درجة الإنتحاب بصمتٍ في داخلي
محاولاً إخفاء الدموع عمن هم بقربي في القاعة. في تلك
الليلة كتبت قصيدة عن ذلك الموقف نُشرت في المجموعة
الشعرية الأولى عام 1992.
بعد سنوات قرأت سونيتات شكسبير مترجمة الى العربية،
ثم عدت إلى النص الإنجليزي الأصلي. تكشف السونيتات للقاريء
جوانب أخرى من الأدب الشكسبيري، قد لانراها بذلك الوضوح والبوح في تراجيدياته الكبرى.
حينَ طُلب مني المشاركة في إحتفالية مرور 400 عام على وفاة شكسبير عدت لقراءة السونيتات. استوقفني الجزء الأول منها (من 1 إلى سوناته 17) ، والتي يتحدث فيها الشاعر الكبير إلى صديقه الشاب، ويحثه على ضرورة الزواج وإنجاب طفل.
يكشف لنا الكاتب إعراض صديقه عن الزواج، مختزناً بذرة استمرار الحياة في داخله. الأطفال هم الجمال المتجدد في الحياة، وهم من يحملون وينقلون جمال الأب والأم إلى الأجيال التي تليهم. هذا هو سبب وجودنا كما يراه شكسبير. أن يستمر جنسُنا البشري بكل مافيه من ثراء وجمال ومتعة ويبقى في الوجود، من خلال مانخلفه من أطفال، وقود الحياة المتجدد.
مع هذه السونيتات ذهبت أتأمل الطفل الذي سوف يولد، وتساءلت: ماذا لو أن هذا الحلم الشكسبيري و الذي يمثّل الجمال وسبب بقاء وجودنا، يأتي إلى عالمنا المعاصر الممتليء بالمآسي والحروب والفقر والجوع.
نحن نكبر ونهجر عالم الطفولة، لنلج عالم الكبار. عالم يلمؤه الضجيج، والتحديات، والصراعات والسلوكيات التدميرية. كل ماتمثله الطفولة من حب وسلام وعاطفة تُستبدل بالجشع، والكره، والحرب، والموت.
ألا يبدو أن صوت شكسبير المتفائل بالجمال والحب لم يعد له موضع في حياتنا المعاصرة، حيث يسقط الإنسان تحت عجلات عالم شرس وقاسٍ.
ألا نبتعد ونغترب عندما نكبر عن الطفل الذي بدأنا معه الحياة، ثم نرتدي أقنعة مزيفة مدّعين أننا نحاول التطور والتقدم لنعيش حياة أكثر متعة وبهجة وسعادة، والواقع هو أننا نعيش حياة خالية من الحب، خالية من الحياة.
الطفل يستيقظ
في عالمٍ دون أبوابٍ وُلِدتُ
كل جهة من الجهات الأربع تشير إلى اللانهائي.
جهة الشمال الشرقي خط أفقٍ لامتناه،
ولاشيء خلف البحر.
صغيراً، سألتُ: لو وصلتُ الأفقَ، أسأسقط خلفه؟
في أحد أحلام الطفولة وقفتُ فوقَ جُرفٍ شاهقٍ، ذات يومٍ عاصف
حيث كانت تتلاطم تحتي أمواجٌ هائلةٌ تضرب الصخور بعنفٍ،
ثم هَوَيتُ.
حين كبِرتُ، كما فعلَ الجميع، هجرتُ الطفل الذي في داخلي.
تركته قابعاً هناك في غرفة الذاكرة المظلمة ومضيت.
ذهبت للدراسة، إتخذتُ عملاً، تزوجتُ، وصار لدي أطفال، ولكن، على الرغم من كل ذلك. لا أزال اسمع صوت الطفل الذي هجرته ينادي:
إلى أين تذهب؟ هذا أنا هنا، لم أزل في داخلك، لكنك لا تراني، لا تسمعني. أنتَ، وكل مَن حولك، تلبسون أقنعة الكبار، ولا تعلمون من أنتم! ولماذا...أنتم! لقد تغربتم... بعيداً عن أرواحكم، وياللأسف، قلةٌ منكم من يدرك هذه الحقيقة.
1
أنتَ
هُوَ
أنتَ مَن
تبحثُ عَنْهُ.
2
في الضوء الشاحب لقمرِ نَيسانَ
حين يتحول الفجر بارد إلى شمسٍ
وقتَ وُلدتَ
تسلَّلَ طيفٌ منكَ، أو هي روحك؟
ذهبَت
كي تتدفأ تحت فيء النخيل
نخيلٍ بدَت كرؤوس نساءٍ
يقفنَ هناكَ منذُ قرونِ
وذهبتَ أنتَ
لتكبُر.
3
البيتُ الذي هجرتُهُ
الروحُ التي نسيتُها في الثالثةِ من العمر
وقتَ منحوني اسماً ليس لي
وقالوا: هذا أنتَ
أراكَ الآن.
هذا أنت
تعودُ اليومَ.
4
طويلاً كان دربُكَ
بصحارٍ وبحارٍ مررتُ
بسنينَ مظلمةٍ، غاضبةٍ وحميميةٍ
لليالٍ غائمةٍ، لا نهائيةٍ
ونهاراتٍ بشموسٍ حارقةٍ
ساعاتُ موتٍ
بعدَ هذا الطريقِ الطويلِ
وجدْتُهُ.
5
البابُ طرقته حين
في الثالثة من العمر
وهاهو بعدَ خمسينَ عامٍ
يُفتح
يستيقظُ الطِّفل،
يتقلَّبُ، قبل الكلامِ، في لِذَّةٍ
يمُدُّ إليكَ كفّيه.
6
في أي أرضٍ تلاشَت خُطاكَ
ولِمَ، بعدَ آلافِ الأيام، لازلتَ ترحلُ
رأيتُكَ تقطع جبالَ السِّنينَ الشاهقة
لكنك كنت تطفو
على سطح الأشياء هزيلا.
همتَ في الغابات، أعمى
دونَ دليلٍ
هارباً ...
أنا
أنا الطفلُ في داخِلك
من يسألُك…
لا عمّا مضى
ولا عمّا سيأتي
بل عن الآن
الآن فقط
فأستيقظ.